من المؤكد أن معظم قراء هذا المقال وخبراء اللغة العربية المجتمعين أخيرا في رحاب المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم/الألكسو بتونس سيجدون نوعا من الغرابة في استعمال كلمات إعاقات الإزدواجية اللغوية في عنوانه ، إذ هم يعرفون أن لفظ الإعاقة يستعمل اليوم في الحديث عن حالات غيرسليمة عند بني البشر.
أما اللغات البشرية فهي تتعرض أيضا إلى الإصابة بالإعاقات لأنها كائنات حية لاتكون دائما في حالة سليمة لأسباب مختلفة. فمجيء لغة أجنية ، مثلا، إلى المجتمع ومنافستها للغة الأم في عقر دارها يؤدي في كثير من الأحيان إلى إصابة اللغة الوطنية بالإعاقة. أي أنها تصبح غيرقادرة على القيام بوظيفتها التعبيرية والتواصلية الكاملة في مجتمعها. فاللغة تتعرض للإعاقة إن هي أقصيت قليلا أو كثيرا من الإستعمال من طرف أهلها. ولاتقتصر إعاقة اللغة على الجانب التعبيري التواصلي فقط، بل طالما يقترن ذلك بما نود تسميته بالإعاقة النفسية التي تصيب علاقة المواطنات والمواطنين بلغتهم الأم بحيث تصبح مكانة هذه الأخيرة عندهم ليست هي المكانة الأولى في قلوبهم وعقولهم واستعمالاتهم. أي أنهم يفقدون العلاقة الحميمية التي تربط في الظروف العادية الناس بلغاتهم الوطنية، فتراهم في كثيرمن الحالات غير مرتاحين في استعمالها على المستووين الشفوي والكتابي. ومن ثم، طالما يقترن هذا الوضع بسلوكات فردية وجماعية ليست في صالح اللغات الوطنية مثل ضعف الغيرة والدفاع عليها. وبعبارة أخرى، فكل تلك المعالم السلوكية إزاء اللغات الوطنية تشير إلى وجود أعراض إعاقة نفسية عند أهلها الناطقين بها. فخبراء اللغة العربية المكلفون بإرساء خطة لتحسين وضع اللغة العربية في المجتمعات العربية مطالبون بتجاوزالمنظورالتقليدي البيداغوجي لتعلم اللغة العربية وتبني سياسة لغوية كاملة بدل ذلك تشمل الجوانب النفسية والإجتماعية التي تعمل لصالح معرفة اللغة العربية وتعلمها واستعمالها لا إلى إعاقة تعلمها ومعرفتها واستعمالها. سوف تتجلى في أقسام هذا المقال معالم الإعاقة بصنفيها في تعامل التونسيات والتونسيين اليوم مع اللغة العربية، لغتهم الوطنية.
مشكل إعاقة اللغة العربية ينتشر موقف جماعي في المجتمع التونسي اليوم مفاده أن تعلم اللغات والثقافات الأجنبية وخاصة الغربية منها يمثل تأشيرة خضراء للتفتح على الآخر وكسب رهان الحداثة. يرى عالما النفس والإجتماع أن هذا الموقف يعتبراليوم مسلمة من المسلمات في عقلية التونسيات والتونسيين، أي أنه اعتقاد سائد بين الخاصة والعامة على حد سواء بحيث لايكاد يثيرعندهم أي تساءل لامن قريب ولامن بعيد حول ما يمكن أن تسببه الإزدواجية اللغوية من إعاقات للغة العربية، اللغة الوطنية للمجتمع التونسي. ومن ثم، تنظرالأغلبية الساحقة من الطبقات والفئات الإجتماعية التونسية بعد أكثرمن نصف قرن من الإستقلال على أنهم على صواب كامل في تبني مثل هذا الموقف وترسيخه في العقلية التونسية. لكن يعلمنا علما الإجتماع والنفس الحديثان الكثيرعن تكوين العقليات والمواقف الجماعية عند الشعوب، فيؤكدان مدى استعداد بني البشر لتبني الإعتقادات والمواقف الخاطئة. وبعبارة أخرى، فليس للبشرمناعة فطرية حصينة تقيهم من الإعتقاد والسلوك الخاطئين.
وعند فحص هذا الموقف التونسي الجماعي المعيق لفهم طبيعة الإزدواجية اللغوية، تتجلى بعض أخطائه على عدة مستويات:
1 ـ مثلا ، لايكاد التونسيات والتونسيون يضعون شروطا لتعلم اللغات الأجنبية إذ هم يعتقدون جازمين أن ليس في مسألة تعلم اللغات الأجنبية في الصغر والكبر إلا الخير الصرف للمتعلمين ومنه إلى المجتمع بصفة عامة. لايؤيد علما النفس والإجتماع هذا الموقف. لننظر، مثلا،إلى ما يوحي به عنوان هذا الكتاب الحديث "تحدي الأطفال مزدوجي اللغة" (Le défi des enfants bilingues )
2ـ تفيد المعطيات المختلفة با لمجتمع التونسي في عهدي الإستعمار والإستقلال أن اللغة العربية لاتتمتع بعلاقة سليمة في هذا المجتمع رغم اعتبارها شعبيا ورسميا لغته الوطنية الوحيدة قبل الإستقلال وبعده. ويعني فقدان هذه العلاقة السليمة بيننا وبين اللغة العربية ضعف وجود علاقة طبيعية بين اللغة العربية و أفراد ومؤسسات هذا المجتمع اليوم.
3ـ.يفيد مصطلح العلاقة الطبيعية بين اللغة والمجتمع هوأن هذا الأخير يستعمل لغته بالكامل شفويا وكتابيا في قضاء كل شؤون الحياة الإجتماعية والفردية. ومن ثم، فالمجتمع التونسي مصاب بإعاقة لاتسمح له باستعمال لغته الوطنية بطريقة طبيعية وسليمة.
تشير تلك المعالم وما سوف نراه في بقية المقال إلى أن حضوراللغة الفرنسية في المجتمع التونسي في عهدي الإستعمار والإستقلال أحدث ويحدث إعاقات في علاقة التونسيات والتونسيين باللغة العربية. ولايعني هذا أن الإزدواجية اللغوية في حد ذاتها تؤدي بالضرورة إلى إعاقات في استعمال اللغة الوطنية والعلاقة النفسية معها لدى المواطنات والمواطنين. فعلى سبيل المثال، لايشكل تعلم اللغة الأجنبية في المجتمعات المتقدمة إعاقة مادية ونفسية لعلاقة الناس بلغتهم الوطنية، أي أن هذه الأخيرة تبقى لها المكانة الأولى في قلوبهم وعقولهم واستعمالاتهم. تلك هي الإزدواجية اللغوية السليمة التي تكون حقا مصدرا للتفتح على الآخر وإثراء ثقافيا للمجتمع وأفراده دون إصابتهم بمرض فقدان المناعة اللغوية والثقافية الوطنيتين. يجوز القول بأن حالة اللغة العربية اليوم ليست بالطبيعية على مستويي الإستعمال ( الشفاهي والكتابي) عند أغلبية التونسيات و التونسيين ومؤساساتهم وذلك بعد أكثر من خمسة عقود من الإستقلال. وهو وضع يعرض هذه اللغة إلى إعاقات عديدة في صلب مجتمعها. فيصح إذن تسمية الأشياء بأسمائها أمرا ضروريا لصالح المجتمع ولأفراده : إن وضع اللغة العربية/اللغة الوطنية في المجتمع التونسي منذ عهد الإستعمار يمثل مشكلا معيقا لتطبيع العلاقة مع اللغة الوطنية في هذا المجتمع. إنه وضع غيرسليم وغيرطبيعي بالنسبة لتعامل المجتمع التونسي مع اللغة العربية. فالعلاقة بين الإثنين لم تعد علاقة حميمية وعضوية كما هوالشأن في علاقات المجتمعات البشرية بلغاتها في الظروف العادية. ويؤدي فقدان العلاقة العضوية بين مكونات الجسم البشري إلى ظهورأعراض المرض عليه. ويجوزقول نفس الشيء بالنسبة لبروز أعراض المرض في سلوك الأفراد والجماعات والمؤسسات في المجتمع عندما تختل فيه العلاقة العضوية والحميمية باللغة الوطنية.
يعلن الدستور في أول فصوله بأن "تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة ، الاسلام دينها والعربية لغتها والجمهورية نظامها" . فواضح مما ورد في هذا البند من الدستور أن القيادة السياسية التونسية الجديدة بعد الإستقلال أقرت أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية أو الوطنية الوحيدة للمجتمع التونسي المستقل . فماذا يعني ذلك بالنسبة للمجتمع التونسي؟ أي هل لهذا المجتمع من التزامات معينة إزاء اللغة العربية حتى تكون فعلا لغته الوطنية/الرسمية بحيث تصبح العلاقة بينهما علاقة عضوية حميمة ؟
موقف المجتمعات نحو لغاتها الوطنية تفيد الملاحظات الميدانية اليوم في المجتمعات المتقدمة بالتحديد بأن لغاتها الرسمية/الوطنية تتمتع فيها عموما بالمواصفات الرئيسية التالية :
1. الإستعمال الكامل لها على المستويين الشفوي والكتابي.
2. الإحترام لها والإعتزاز بها والغيرة عليها والتحمس للدفاع عنها.
3. معارضة إستعمال لغة أجنبية بين مواطني تلك المجتمعات.
4. شعور عفوي قوي لدى المواطنين بالأولوية الكبرى التي يجب أن تنفرد بها اللغة الوطنية في الإستعمال في مجتمعاتهم .
5. إحساس قوي ومراقبة واسعة لدى المواطنين لتحاشي إستعمال الكلمات الأجنبية ، من ناحية، وسياسات وطنية متواصلة من أصحاب السلطة لترجمة المصطلحات والكلمات الأجنبية الجديدة إلى اللغة الوطنية، من ناحية ثانية.
6. تمثل اللغة الوطنية العنصر الأبرز لتحديد هويات الأفراد والجماعات في المجتمعات المختلفة ، ويتجلى ذلك أكثر في عصرنا الحديث في المجتمعات المتقدمة أو تلك التي لم تتعرض إلى الهيمنة الإستعمارية اللغوية والثقافية بوجهيها التقليدي المباشر أو الجديد غير المباشر .
تشخيص علاقة التونسي باللغة العربية
إذا تبنينا تلك المؤشرات الستة لقياس موقف التونسيين اليوم إزاء اللغة العربية (لغتهم الوطنية) لوجدنا أن موقفهم يترواح بين الضعيف والمتوسط على كل واحد من هذه المؤشرات. ومن ثم، فالإعاقات التي تشكو منها اللغة العربية في المجتمع التونسي منذ مجيء الإستعمارالفرنسي ذات وجوه عديدة كمارأينا وكما سيتضح الآن :
1- فعلى المستوى الشفوي ، يمزج التونسيات و التونسيون كثيرا حديثهم بكلمات وجمل وعبارات فرنسية حتى أنه يصح وصف اللهجة التونسية بأنها لا تكاد تكون سوى مزج للعربية بالفرنسيـة أي الفرونكــوأراب le franco-arabe في أغلب الأحيان.
وربما يجوز القول بأن أغلبية التونسيات والتونسيين اليوم يستعملون كلمة فرنسية على الأقل في كل عشر كلمات (1/10) من حديثهم بالعامية التونسية مع المواطنات والمواطنين التونسيين. فالإستعمال المكثف للفرنسية في اللهجة التونسية (الفرونكو أراب) هو سيد الموقف في حديث الأكثرية الساحقة للتونسيات والتونسيين في مطلع القرن الحادي والعشرين . وبتعبير العلوم الإجتماعية ، فالفرونكوأراب كسلوك لغوي شائع في المجتمع التونسي الحديث يمثـل المعيـار اللغـوي الإجتماعـي، أي أن حديث التونسي مع التونسيات والتونسيين بلهجة تونسية عربية خالية تماما من أي كلمة فرنسية ينظر إليه لاشعوريا من جانبهم على أنه ضـرب من السلوك اللغـوي المنحـرف الذي طالما يقابل بالتعجب والحيرة وحتى التهكم والسخرية . أليس في ذلك إعاقة ملموسة لتطبيع العلاقة مع اللغة الوطنية؟ أما استعمال اللغة العربية على مستوى الكتابة في المجتمع التونسي فهو لايزال محدودا في الأمور الكبيرة والصغيرة على حد سواء . فمعظم التونسيات و التونسيين يكتبون ، مثلا ، صكوكهم/شيكاتهم المصرفية باللغة الفرنسية ويقومون أيضا بكتابة إمضاءاتهم بلغة موليار . واللغة العربية غائبة عموما في العديد من المؤسسات التونسية الحديثة . فاللغة الفرنسية هي لغة العلوم في المؤسسات التعليمية التونسية إبتداء من مرحلة التعليم الثانوي وإنتهاء بمرحلة الدراسات الجامعية العليا .
كما أن اللغة الفرنسية تبقى لغة الكتابة لأنشطة جل البنوك التونسية ولغة المراسلات الدورية مع حرفائها . أوليس في ذلك إعاقة للغة العربية من أن تصبح فعلا لغة وطنية في المجتمع فتنمو وتتطور لتصبح قادرة على أن تكون لغة العصر؟ أما تعريب الإدارات الحكومية بالكامل فلم يصدر فيه أمر إلا بعد أكثر من أربعين سنة من الإستقلال . فقد صدر في عام 1999 أمر رئاسي يطالب كل المؤسسات الحكومية أن تكمل تعريب مراسلاتها إلى المواطنين التونسيين مع نهاية سنة 2000. وبالنجاح في مثل هذا المسار ومواصلة تعزيزه في العقدين القادمين تكون اللغة العربية ربما مؤهلة مع نهاية الثلث الأول من هذا القرن 2029 لاسترجاع مكانتها كلغة وطنية يدير بها التونسيات والتونسيون معظم أو ربما كل شؤونهم الشخصية والإجتماعية ، على كثرة تنوعها وتعقيداتها في مجتمعهم الساعي إلى اللحاق بالمجتمعات المتقدمة . أما حال استعمال اللغة العربية في الأمور الكتابية في المجتمع التونسي اليوم خارج الإدارات الحكومية ، فيجوز أيضا تسميته بسهولة بأنه فرونكوأراب كتابية يوازي الفرونكوأراب الشفاهية المشار إليها سابقا . وبعبارة أخرى ، فالمجتمع التونسي اليوم مزدوج اللغة بالكامل على المستويين الشفاهي والكتابي. وبالتأكيد إن في ذلك إعاقة كبيرة أمام التحرر/ الإستقلال اللغوي الكامل ومن ثم تكريس استمرارالتبعية اللغوية الثقافية للمستعمرالقديم.
2- تشير اليوم الإستبيانات والملاحظات الميدانية المتكررة لسلوكات المتعلمات والمتعلمين التونسيين اللغوية بأن أغلبيتهم الساحقة لا تكاد تبدي بعفوية وارتياح حماسا وإعتزازا باللغة العربية باعتبارها لغتهم الوطنية . ويقترن فقدان الحماس والإعتزاز باللغة العربية عندهم بغياب الموقف القوي المدافع بعفوية والغيور في السر والعلانية على اللغة العربية في المجتمع التونسي الحديث .وبعبارة أخرى ، فلا يكاد يوجد عندهم في أحسن الأحوال أكثر من شعور فاتر إزاء اللغة العربية التي تعتبر لغتهم الوطنية وما يتبع ذلك من أولوية الإحترام والولاء لها قبل أية لغة أخرى .
3-لا يعارض وبالتالي لا يحظر المتعلمات والمتعلمون التونسيون اليوم على أنفسهم استعمال اللغة الفرنسية بينهم في الشؤون الصغيرة والكبيرة التي يقومون بها في مجتمعهم ، بل نجد الكثير منهم يرغبون ويفتخرون بذلك .
4-لا يلاحظ الباحث الإجتماعي اليوم لدى أغلبية المتعلمات والمتعلمين التونسيين موقفا قويا ومتحمسا ينادي ويعمل فعلا على إعطاء اللغة العربية الأولوية الكبرى في الإستعمال في كل قطاعات المجتمع التونسي بما فيها القطاعات العصرية .
5-أما هاجــس مراقبـة النفس لتجنب استعمال الكلمات الأجنبية فهو أمر مفقود عموما عند المتعلمات والمتعلمين التونسيين . ولعل ازدياد إنتشار ظاهرة الفرونكوأراب بينهم اليوم هو دليل على ضعف وعيهم بأهمية اللغة العربية كلغة وطنية لمجتمعهم. ومن ثم ، جاء فقدان أو ضعف الإلتزام لديهم بتضييق الخناق على اللجوء إلى إستعمال كلمات وعبارات فرنسية كثيرة في العامية التونسية واللغة العربية الفصحى على حد سواء . 6-إذا كان الألمان والايطاليون والفرنسيون والإسبان مثلا ، يعرّفون هويتهم في المقام الأول بلغاتهم الوطنية بتلقائية، فإن الإزدواجية اللغوية والثقافية للتونسيات والتونسيين المتعلمين لا تكاد تسمح لهم بربط هويتهم بوضوح وبسهولة باللغة العربية، أي الإنتماء الواضح والقوي إلى الهوية العربية. إن ماورد في التشخيصات 3 و4 و5 و 6 يندرج في سلة الإعاقات النفسية التي تعطل عملية تطبيع العلاقة بين المجتمع التونسي ولغته الوطنية.
بقلم. عبدالعزيز الحنفى